سورة الزمر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


ولما أتم الإنكار على من سوى، بين من شرح صدره ومن ضيق، وما تبعه وختم بأن الأول مهتد، والثاني ضال، شرع في بيان ما لكل منهما نشراً مشوشاً في أسلوب الإنكار أيضاً، فقال مشيراً إلى أن الضلال سبب العذاب، والهدى سبب النعيم، وحذف هنا المنعم الذي سبب له النعيم لين قلبه كما حذف القاسي القلب في آية الشرح الذي سببت له قسوته العذاب، لتتقابل الآيتان، وتتعادل العبارتان: {أفمن} وأفرد على لفظ {من} لئلا يظن أن الوجوه الأكابر فقال: {يتقي} ودل على أن يده التي جرت العادة بأنه يتقي بها المخاوف مغلولة بقوله: {بوجهه} الذي كان يقيه المخاوف ويحميه منها بجعله وهو أشرف أعضائه وقاية يقي به غيره من بدنه {سوء العذاب} أي شدته ومكروهه لأنه تابع نفسه على هواها حتى قسا قلبه وفسد لبه {يوم القيامة} لأنه يرمي به في النار منكوساً وهو مكبل، لا شيء له من أعضائه مطلق يرد به عن وجهه في عنقه صخرة من الكبريت مثل الجبل العظيم، ويسحب في النار على وجهه، كمن أمن العذاب فهو يتلقى النعيم بقلبه وقالبه.
ولما كان مطلق التوبيخ والتقريع متكئاً، بني للمفعول قوله: {وقيل} له- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم به وجمع تنبيهاً على أن كثرتهم لم تغن عنهم شيئاً فقال: {للظالمين} أي الذين تركوا طريق الهدى واتبعوا الهوى فضلوا وأضلوا: {ذوقوا ما} أي جزاء ما {كنتم تكسبون} أي تعدونه فائدة وثمرة لأعمالكم وتصرفاتكم، وقيل لأهل النعيم: طيبوا نفساً وقروا عيناً جزاء بما كنتم تعلمون، فالآية من الاحتباك: ذكر الاستفهام أولاً دليلاً على حذف متعلقه ثانياً، وما يقال للظالم ثانياً دليلاً على ما يقال للعدل أولاً.
ولما ذكر ما أعد لهم من الآخرة، وكانوا في مدة كفرهم كالحيوانات العجم لا ينظرون إلا الجزئيات الحاضرة، خوفهم بما يعملونه في الدنيا، فقال على طريق الاستئناف في جواب من يقول: فهل يعذبون في الدنيا: {كذب الذين} وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال: {من قبلهم} أي مثل سبأ وقوم تبع وأنظارهم: {فأتاهم العذاب} وكان أمرهم علينا يسيراً، وأشار إلى أنه لم يغنهم حذرهم بقوله: {من حيث} أي من جهة {لا يشعرون} أنه يأتي منها عذاب، جعل إتيانه من مأمنهم ليكون ذلك أوجع للمعذب، وأدل على القدرة بأنه سواء عنده تعالى الإتيان بالعذاب من جهة يتوقع منها ومن جهة لا يتوقع أن يأتي منها شر ما، فضلاً عما أخذوا به، بل لا يتوقع إلا الخير.
لما بين سفههم وشدة حمقهم باستعجالهم بالعذاب استهزاء، سبب عنه تبكيت من لم يتعظ بحالهم فقال: {فأذاقهم الله} أي الذي لا راد لأمره {الخزي} أي الذل الناشئ عن الفضيحة والعذاب الكبير بما رادوه من إخزاء الرسل بتكذبيهم {في الحياة الدنيا} أي العاجلة الدنية.
ولما كان انتظار الفرج مما يسلي، قال معلماً أن عذابهم دائم على سبيل الترقي إلى ما هو أشد، وأكده إنكارهم إياه: {ولعذاب الآخرة} أي الذي انتقلوا إليه بالموت ويصيرون إليه البعث: {أكبر} من العذاب الذي أهلكهم في الدنيا، وأشدهم إخزاء، فالآية من الاحتباك: ذكر الخزي أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والأكبر ثانياً دليلاً على الكبير أولاً، وسره تغليظ الأمر عليهم بالجمع بين الخزي والعذاب بما فعلوا برسله عليهم الصلاة والسلام بخلاف ما يأتي في فصلت. فإن سيافه للطعن في الوحدانية، وهي لكثرة أدلتها وبعدها عن الشكوك وعظيم المتصف بها وعدم تأثيره بشيء يكفي في نكال الكافر به مطلق العذاب.
ولما كان من علم أن فعله يورث نكالاً كف عنه ولا يكفون ولا يتعظون قال: {لو كانوا يعلمون} أي لو كان لهم علم ما لعلموا أنه أكبر فاتعظوا وآمنوا، ولكنه لا علم لهم أصلاً، بل هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لأن الجزئيات لا تنفعهم كما تنفع سائر الحيوانات، فإن الشاة ترى الذئب فتنفر منه إدراكاً لأن بينها وبينه عداوة بما خلق الله في طبعه من أكل أمثالها، وهؤلاء يرون ما حل بأمثالهم من العذاب لتكذيبهم الرسل فلا يفرون منه إلى التصديق.
ولما ذكر سبحانه حال الأولين موعظة للعرب، فكان كأنه قيل صرفاً للقول إلى مظهر العظمة تذكيراً بما في الأناة من المنة لأن حالها يقتضي المعاجلة بالأخذ والمبادرة بإحلال السطوة، ضربنا لكم حالهم مثلا لحالكم لتعتبروا به، فإن الأمثال يفهم بها المعاني الغائبة، وتصير كأنها محسوسة مشاهدة، عطف عليه قوله مؤكداً لإنكارهم أن يكون في القرآن بيان شاف وادعائهم أنه إنما هو شعر وكهانة وسحر: {ولقد ضربنا} على ما لنا من العظمة. ولما كان في سياق المفاضلة بين المتقي وغيره من أوائل السورة حين قال {أمن هو قانت} إلى أن ختم بقوله: {أفمن يتقي بوجهه} وأسس ذلك كله على ابتداء الخلق من نفس واحدة، كانت العناية في هذا السياق بالمخاطبين أكثر، فقدم قوله: {للناس} أي عامة لأن رسالة رسولكم عامة.
ولما كان المتعنت كثيراً، عين المحدث عنه بالإشارة التي هي أعرف المعارف، وجعلها ما يعبر به عن القرب، إشارة إلى أنه لما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم خلع القلوب وملأها، فلا حاضر فيها سواه وإن كان المعاند يقول غير ذلك فقوله زور وبهتان وإثم وعدوان، فقال: {في هذا القرآن} أي الجامع لكل علم. ولما كانت كلماته سبحانه لا تنفد وعجائبه لا تعد ولا تحد، وكان في سياق التعجيب من توقفهم قال {من كل مثل} أي يكفي ضربه في البيان لإقامة الحجة البالغة، ثم بين علة الضرب بقوله: {لعلهم يتذكرون} أي ليكون حالهم بعد ضربه حال من يرجى تذكره بما ضرب له ما يعرفه في الكون في نفسه أو في الآفاق تذكراً واضحاً مكشوفاً- بما أرشد إليه الإظهار، فيتعظ لما في تلك الامثال المسوقة في أحسن المقال المنسوقة بما يلائمها من الأوضاع والأشكال من البيان وأوضح البرهان.
ولما كان ذلك غاية في الشرف، دل على زيادة شرفه بحال مؤكدة دالة على شدة عنادهم، تسمى موطئه لأن الحال في الحقيقة ما بعدها بقوله: {قرآناً} أي حال كون ذلك المضروب جامعاً لكن ما يحتاج إليه، ويجوز أن يكون النصب على المدح {عربياً} جارياً على قوانين لسانهم في جمعه باتساعه ووضوحه واحتمال اللفظ الواحد منه لمعان كثيرة، فكيف إذا انضم إلى غيره فصار كلاماً. ولما كان الشيء قد يكون مستقيماً بالفعل وهو معوج بالقوة، قال تعالى: {غير ذي عوج} أي ليس بمنسوب إلى شيء من العوج ولا من شأنه العوج، فلا يصح أن يكون معوجاً أصلاً في شيء من نظمه ولا معناه باختلاف ولا غيره كما في آية الكهف سواء، وفي الإتيان بعوج الذي هو مختص بالمعاني بيان أن الوصف له حقيقة، فهو أبلغ من غير معوج، لأنه يحتمل إرادة أهله على المجاز.
ولما كان التذكر بالتذكير لكونه أبلغ للوعظ حاملاً، ولا بد للعاقل على الخوف المسبب للنجاة قال: {لعلهم يتقون} أي ليكون حالهم بعد التذكير الناشئ عن التذكير حال من يرجى له أن يجعل بينه وبين غضب الله وقاية.


ولما أقام سبحانه الدليل المنير على التفاوت العظيم، بين من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يدعو الله مخلصاً له الدين وبين من يدعو لله أنداداً، وختم بضرب الأمثال، وكان الأمثال أبين فيما يراد من الأحوال، قال منبهاً على عظمتها بلفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال: {ضرب الله} أي الملك الأعظم المتفرد بصفات الكمال {مثلاً} لهذين الرجلين مع أنه لا يشك ذو عقل أن المشرك لا يداني المخلص فضلاً عن أن يقول: إن المشرك أعظم كما يقوله المشركون. ولما كان الذكر أقوى من الأنثى، وأعرف بمواقع النفع والضر، وكان كونه بالغاً أعظم لقوته وأشد لشكيمته، فيكون أنفى للعار عن نفسه وأدفع للظلم عن جانبه وأذب عن حماه، قال مبيناً للمثل مشيراً إلى تبكيت الكفار ورضاهم لأنفسهم بما لا يرضاه لنفسه أدنى الأرقاء {رجلاً فيه} أي خاصة. ولما كانت معبوداتهم- لكونها من جملة المخلوقات- كثيرة الأشباه والنظائر، عبر عنها بجمع الكثرة فقال: {شركاء} في الظاهر من الأصنام وفي الباطن من الحظوظ والشهوات، ووصف الشركاء بقوله: {متشاكسون} أي مختلفون عسرون يتجاذبون مع سوء الأخلاق وضيقها وقباحة الشركة، فليس أحد منهم يرضى بالإنصاف، فهو لا يقدر أن يرضيهم أصلاً {ورجلاً سلماً} أي من نزاع {لرجل} فليس فيه لغيره شركة ولا علاقة أصلاً، فهو أجدر بأن يقدر على رضاه مع راحته من تجاذب الشركاء- هذا على قراءة المكي والبصري، وعلى قراءة الباقين بحذف الألف وفتح اللام وهو وصف بالمصدر على المبالغة.
ولما انكشف الحال فيها جداً قال: {هل يستويان} أي الرجلان يكون أحدهما مساوياً للآخر بوجه من الوجوه ولو بغاية الجهد والعناية. ولما كان الاستواء مبهماً قال: {مثلاً} أي من جهة المثل، أي هل يستوي مثلهما أي يجمعهما مثل واحد حتى أن يكونا هما متساويين فهو تمييز محول في الأصل عن الفاعل، والجواب في هذا الاستفهام الإنكاري قطعاً: لا سواء، بل مثل الرجل السالم في غاية الحسن فكذا ممثوله وهو القانت المخلص، ومثل الرجل الذي وقع فيه التشاكس في غاية القبح فكذا ممثوله وهو الداعي للأنداد.
ولما علم بهذا المثل المضروب للرجلين سفول المشترك وهو الداعي للأنداد، وعلو السالم وهو القانت، ظهر بذلك بلا ريب حقارة المتشاركين وجلالة المتفرد وهو الله، فأنتج قطعاً قوله: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} الذي لا مكافئ له، يعلم ذلك كل أحد لما له من الظهور لما عليه من الدلائل، فلا يصح أن يكون له شريك {بل أكثرهم} أي الناس {لا يعلمون} لأنهم يعملون لما لا يليق بهذا العلم فيشركون به إما جلياً وإما خفياً، ويجوز أن يقال: له الكمال كله، فليس الملتفتون إلى غيره أدنى التفات علماء، بل لا علم لهم أصلاً، وهم المشركون شركاً جلياً، وأما أصحاب الشرك الخفي فهم، وإن كان لهم علم- فليس بكامل.
ولما كان السالم مثلاً له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه، والآخر للمخالفين، وكان سبحانه قد أثبت جهلهم، وكان الجاهل ذا حمية وإباء لما يدعى إليه من الحق وعصبيته:
والجاهلون لأهل العلم اعداء ***
فكان لذلك التفكير في أمرهم وما يؤدي إليه من التقاعد من الأتباع والتصويب بالأذى ولا سيما وهم أكثر من أهل العلم مؤدياً إلى الأسف وشديد القلق فكان موضع أن يقال: فما يعمل؟ وكان لا ينبغي في الحقيقة أن يقلق إلا من ظن دوام النكد، قال تعالى مسلياً ومعزياً وموسياً في سياق التأكيد، تنبيهاً على أن من قلق كان حاله مقتضياً لإنكار انقطاع التأكيد: {إنك} فخصه صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب إذا كان للرأس كان أصدع لأتباعه، فكل موضع كان للأتباع وخص فيه صلى الله عليه وسلم بالخطاب دونهم فهم المخاطبون في الحقيقة على وجه أبلغ.
ولما لم يكن لممكن من نفسه إلا العدم قال: {ميت} أي الآن لأن هذه صفة لازمة بخلاف مايت يعني: فكن كالميت بين يدي الغاسل فإنك مستريح قريباً عما تقاسي من أنكادهم، وراجع إلى ربك ليجازيك على طاعتك له {وإنهم} أي العباد كلهم أتباعك وغيرهم {ميتون} فمنقطع ما هم فيه من اللدد والعيش والرغد.
ولما كان الشفاء الكامل إنما يكون بأخذ الثار، وإذلال الظالم، قال مشيراً بأداة التراخي إلى مدة البرزخ مؤكداً لأجل إنكارهم البعث فضلاً عن القصاص صادعاً لهم بالخطاب بعد الغيبة: {ثم إنكم} أي أيها العباد كلكم، فإن كل أحد مسؤول عن نفسه وعن غيره هل راعى حق الله فيه، أو أنت وهم من باب تغليب المخاطب وإن كان واحداً لعظمته على الغائبين، وزاد في إثبات المعنى بقوله: {يوم القيامة} فساقه مساق ما خلاف فيه، وبين أن ذلك الحال مخالف لهذا الحال لانقطاع الأسباب بقوله، صارفاً القول إلى وصف التربية الذي يحق له الفضل على الطائع والعدل في العاصي {عند ربكم} أي المربي لكم بالخلق والرزق فلا يجوز في الحكمة أن يدعكم يبغي بعضكم على بعض كما هو مشاهد من غير حساب كما أن أقلكم عقلاً لا يرضى بذلك في عبيده الذين ملكه الله إياهم ملكاً ضعيفاً، أو ولاه عليهم ولاية مزلزلة، فكيف بمن فوقه فكيف بالحكماء {تختصمون} أي تبالغون في الخصومة ليأخذ بيد المظلوم وينتقم له من الظالم، ويجازي كلاًّ بما عمل، أما في الشر فسوءاً بسوء، لا يظلم مثقال ذرة ولا ما دونه، وأما في الخير فالحسنة بعشرة أمثالها- إلى ما فوق ذلك مما لا يعلمه غيره، فلا ينبغي أبداً لمظلوم أن يتوهم دوام نكده وعدم الأخذ بيده فيقتصر في العمل ويجنح إلى شيء من الخوف والوجل، بل عليه أن يفرح بما يجزل ثوابه، ويسر بما ييسر حسابه، ويشتغل بما يخلص به نفسه في يوم التلاق الذي الناس فيه فريقان، ولا يشتغل بما لا يكون من تصفية دار الكدر عن الأكدار، وقرارة الدنس عن الأقذاء والأقذار، فإن الدوام فيها محال على حال من الأحوال، قال القشيري: نعاه صلى الله عليه وسلم ونعى المسلمين إليهم ففرغوا بأنفسهم عن مأتمهم، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث، ومن لم يتفرغ عن مأتم نفسه وأنواع غمومه وهمومه، فليس له من هذا الحديث شمة، وإذا فرغ قلب عن حديث نفسه وعن الكون بجملته، فحينئذ يجد الخير من ربه وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم، وأنشد بعضهم يعني في لسان الحال بما قدمنا:
كتبت إليكم بعد موتي بليلة *** ولم أدر أني بعد موتي أكتب
انتهى. ومن المعلوم أنهم إذا أماتوا نفوسهم حييت أرواحهم فانفسحت صدورهم وانتعشت قوى قلوبهم فاتسعت علومهم واستنارت فهومهم وتجلت لهم حقائق الأمور فحدثوا عن مشاهدة {الناس نيام} فإذا ماتوا انتبهوا.
ولما أخبر سبحانه بأنهم جعلوا لله أنداداً، وأعلم بأنهم كذبة في ذلك كافرون ساترون للحق، وأنه لا يهدي من هو كاذب كفار، وأخبر أنه لا بد من خصام الداعي لهم بين يديه سبحانه، لآنه لا يجوز في الحكمة تركهم هملاً كما هو مقرر في العقول وموجود في الفطر الأولى، ومعلوم بالمشاهدة من أحوالهم فينعم على المظلوم، وينتقم من الظالم، وكان الكاذب في أقل الأشياء ظالماً، وأظلم منه الكاذب على الأكابر، وأظلم الظالمين الكاذب على الله، قال تعالى مسبباً عما مضى: {فمن أظلم} أي منهم- هكذ كان الأصل ولكنه قال: {ممن كذب} تعميماً وتعليقاً بالوصف، فكفر بستر الصدق الثابت وإظهار ما لا حقيقة له.
ولما كان الكذب عظيم القباحة في نفسه فكيف إذا كان كما مضى على الأكابر فكيف إذا كانوا ملوكاً، فكيف إذا كان على ملك الملوك، لفت القول إلى مظهر الاسم الأعظم تنبيهاً على ذلك فقال: {على الله} أي الذي الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره، فمن نازعه واحدة منهما قصمه، فزعم فب كذبه أن له سبحانه أنداداً، وشركاء وأولاداً.
ولما كان وقوع الحساب يوم القيامة حقاً لكونه واقعاً لا محالة وقوعاً يطابق الخبر عنه، لما علم من أنه لا يليق في الحكمة غيره لما علم من أن أقل الخلق لا يرضى أن يترك عبيده سدى، فكيف بالخالق؟ فكان الخبر به صدقاً لوقوع العلم القطعي بأنه يطابق ذلك الواقع قال: {وكذب} أي أوقع التكذيب لكل من أخبره {بالصدق} أي الإخبار بأن الله واحد وأنه يبعث الخلائق للجزاء المطابق كل منهما للواقع لما دل على ذلك من الدلائل المشاهدة {إذ جاءه} أي من غير توقف ولا نظر في دليل، كما هو دأب المعاندين، أولئك هم الكافرون لهم ما يضرهم من عذاب جهنم، ذلك جزاء المسيئين.
ولما كان قد تقرر كالشمس أنه لا يسوغ في عقل العاقل ترك الخلق سدى، فكان يوم الدين معلوماً قطعاً، وكان معنى هذا الاستفهام الإنكاري نفي مدخوله فترجمته: ليس أحد أكذب منهم، وكان عرف اللغة في تسليط هذا النفي على صيغة أفعل إثبات مدلول أفعل ليكون المعنى أنهم أكذب الخلق، فكان التقدير: أليس هذا الكاذب المكذب عاقلاً يخشى أن يحاسبه الله الذي خلقه؟ أليس الله المتصف بجميع صفات الكمال يحاسب عباده كما يحاسب كل من الخلائق من تحت يده؟ أليس يحبس الظالم منهم في دار انتقامه كما يفعل أدنى الحكام؟ أليس دار انتقامه جهنم التي تلقى داخلها بعبوسة وتجهم؟ نسق به قوله: {أليس في جهنم} أي النار التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى الحق وأهله {مثوى} أي منزل مهيأ للإقامة فيه على وجه اللزوم لهم هكذا كان الأصل، ولكنه قال تعميماً وتعليلاً بالوصف مبيناً أن الكذب كفر أي ستر للصدق وغظهار لما لا حقيقة له، والتكذيب بالصدق كذلك {للكافرين} أي الذين ستروا كذبهم فألبسوه ملابس الصدق وستروا الصدق الذي كذبوا به، ذلك جزاء المسيئين لأنهم ليسوا بمتقين، فأقام سبحانه هذه المقدمة دليلاً على تلك المقدمات كلها.
ولما ذكر سبحانه الظالمين بالكذب ذكر أضدادهم الذين يخاصمونهم عند ربهم وهم المحسنون بالصدق فقال: {والذي} أي الفريق الذي {جاء بالصدق} أي الخبر المطابق للواقع، فصدق على الله، وتعريفه يدل على كماله، فيشير إلى أن الإتيان به ديدنه لا يتعمد كذباً {وصدق به} أي بكل صدق سمعه وقام عليه الدليل، وليس هو بجموده عدو ما لم يعلم، فهو يكذب بكل ما لم يسمع، فمن أعدل منه لكونه صدق على الله وصدق بالصدق إذ جاءه واستمر عليه، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة الموصوف بهذا الوصف من الصدق، وهذا الفريق هو الرسل وأتباعهم، ولذلك حصر التقوى فيهم، فقال مشيراً بالجمع إلى عظمتهم وإن كانوا قليلاً: {أولئك} أي العالو الترتبة {هم} أي خاصة {المتقون} الذين جانبوا الظلم، فليس لجهنم عليهم سبيل، ولا لهم فيها منزل ولا مقيل، بل الجنة منزلهم، أليس في الجنة منزل للمتقين؟ فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً المثوى في جهنم دليلاً على حذف ضده ثانياً، والاتقاء ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم من الكفر وسوء الجزاء. وأسرّ ما للمسلم من قصر التقوى عليه، وذكر أحب جزائه إليه، والإشارة إلى عراقته في الإحسان وفي الآيات احتباك آخر وهو أنه ذكر الكذب والتكذيب أولاً دليلاً على الصدق والتصديق ثانياً، والاتقاء وجزاءه وما يتبعه ثانياً دليلاً على ضده أولاً، وسره أنه ذكر في شق المسيء أنكأ ما يكون من الكذب والتكذيب في أقبح مواضعه، ولا سيما عند العرب، وأسر ما يكون في شق المحسن من استقامة الطبع وحسن الجزاء.


ولما مدحهم على تقواهم، قال في جواب من سأل عن ثوابهم، فقال لافتاً القول إلى صفة الإحسان تعريفاً بمزيد إكرامهم: {لهم ما يشآءون} أي يتجدد لهم إرادته متى أرادوه {عند ربهم} أي المحسن إليهم اللطيف بهم في الدنيا والآخرة لأنهم سلموا له في الأولى ما يشاء، فسلم لهم في الأخرى ما يشاؤون. ولما كان أعظم الجزاء، مدحه على وجه بين علته وأوجب عمومه فقال: {ذلك} أي الثواب الكبير {جزاء المحسنين} أي كل من اتصف بالإحسان كما اتصفوا به بالتقوى، فأحبه الله سبحانه كما أحبهم، فكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.
ولما كان العاقل من قدم في كل أمر الأهم فالأهم فميز بين خير الخيرين فأتبعه، وشر الشرين فاجتنبه، كان المحسن من جعل أكبر ذنوبه نصب عينيه وعمل على هدمه، فلذلك علل الإحسان بقوله: {ليكفر} أي يستر ستراً عظيماً كأنه قال: المحسنين الذين أحسنوا لهذا الغرض، ويجوز أن يكون التعليل للجزاء، وعبر بالاسم الأعظم لفتاً عن صفة الإحسان إشارة إلى عظيم الاجتهاد في العمل والإيذان بأنه لا يقدر على الغفران لمن يريد إلا مطلق التصرف فقال: {الله} أي الذي نصب المحسن جلاله وجماله بين عينيه، فاستغرق في صفاته ابتغاء مرضاته، فعبده كأنه يراه، وحقق باعترافهم بالخطأ وقصدهم التكفير لما أهمهم فعلهم له بقوله: {عنهم أسوأ} العمل {الذي عملوا} وتابوا عنه بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود وقد علم أنه إذا محي الأكبر انمحى الأصغر لأن الحسنات يذهبن السيئات، فلله در أهل البصائر والإخلاص في الإعلان والسرائر ولما أخبر بالتطهير من اوضار السيئ، أتبعه الإخبار بالتنوير بأنوار الحسن فقال: {ويجزيهم أجرهم} أي الذي تفضل عليهم بالوعد به.
ولما كان تعالى يزيد العمل الصالح ويربيه، زاد الجار في الجزاء إعلاماً بأنه يجعل الأعمال الصالحة كلها مثل أعلاها فقال: {بأحسن} ولما كان مقصود هذه السورة أخص من مقصود سورة النحل، وكانت الذي ومن أقل إبهاماً من ما قال: {الذي} أي العمل الذي، وهو كالأول من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه كخاتم فضة، وأشار إلى مداومتهم على الخير بالتعبير بالكون والمضارع فقال: {كانوا يعملون} مجددين له وقتاً بعد وقت لأنه في طبائعهم فهم عريقون في تعاطيه، فمن كان في هذه الدار محسناً في وقت ما يعبد الله كأنه يراه فهو في الآخرة كل حين يراه، قال القشيري، ثم يجب أن يكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب، وأحسن الثواب الرؤية، فيجب أن يكون على الدوام. وهذا استدلال قوي.
ولما فهم من قوله: {وكذب بالصدق إذ جاءه} أن المشركين يكذبونه، وكان من طبع الآدمي الاهتمام بمثل ذلك ولا سيما إذا كان المكذب كثيراً وقوياً، وتقرر أنه سبحانه الحكم العدل بين المتخاصمين وغيرهم في الدنيا والآخرة، ولزم كل سامع الإقرار بالآخرة، وبشر المحسنين وحذر المسيئين، وكان من المعلوم أنهم يحذرونه آلهتهم كما يحذرهم إلهه، حسن كل الحسن قوله مقراً للكفاية غاية الإقرار، ومنكراً لنفيها كل الإنكار: {أليس الله} أي الجامع لصفات العظمة كلها المنعوت بنعوت الكمال من الجلال والجمال، وأكد المراد بزيادة الجار لما عندهم من الجزم بأنهم غالبون فقال: {بكاف} وحقق المناط بالإضافة في قوله: {عبده} أي الخالص له الذي لم يشرك به أصلاً كما تقدم في المثل ممن كذبه وقصد مساءته فينصره عليهم حتى يظهر دينه ويعلي أمره ويغنيه عن أن يحتاج إلى غيره أو يجنح إلى سواه، باعتقاد أن في يده شيئاً يستقل به، وهاذ لا ينافي السعي في الأسباب مع اعتقاد أنها بيد الله، فإن شاء ربط بها المسببات، وإن شاء أعقمها، بل السعي أكمل، لأن ترتيب الأسباب بوضع الحكيم، فالسعي في طرحها ينافي وضع الحكمة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر: عباده- بالجمع بمعنى الرسول وأتباعه.
ولما كان الجواب قطعاً: بلى، إنه ليكفي من يشاء، والأصنام الممثلون بالشركاء المتشاكسين لا يكفون من تولاهم، بني على ذلك حالاً عجيباً من أحوالهم، فقال معجباً منهم ومتهكماً بهم: {ويخوفونك} أي عباد الأصنام يعلمون أن الله يكفي من أراد وأن الأصنام لا كفاية عندها بوجه والحال أنهم يخوفونك. ولما كان الخوف ممن له اختيار، فإن كان عاقلاً كان أقوى لمخالفته، وكان من المعلوم بديهة أنه لا اختيار لهم فضلاً عن العقل، قال تهكماً بهم بالتعبير بما يعبر به عن الذكور العقلاء لكونهم ينزلونهم بالعبادة وغيرها منزلة العقلاء مع اعترافهم بأنهم لا عقل لهم، فصاروا بذلك ضحكة وشهرة بين الناس: {بالذين} وبين حقارتهم بقوله: {من دونه} وهم معبوداتهم ضلالاً عن المحجة فيقولون: إنا نخشى عليك أن يخبلك آلهتنا كما قالت عاد لهود عليه السلام {أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 54] وسيأتي التعبير عنهم بالتانيث زيادة في توبيخهم.
ولما كان من الحق الواضح كالشمس أن ما قالوه لا يقوله عاقل، وكان التقدير: فقد أظلهم الله إهانة لهم وهداك إكراماً لك، بين أنه سبحانه قسرهم على ذلك ليكون إضلاله لهم آية كما أن هداه لمن هداه آية، فقال مخففاً عنه صلى الله عليه وسلم في إذهاب نفسه عليهم حسرات دامغاً للقدرية: {ومن يضلل الله} أي الذي له الأمر كله فلا يرد أمره {فما له} لأجل أنه هو الذي أضله {من هاد} أي فخفض من حزنك عليهم {ومن يهد الله} أي الذي لا يعجزه شيء أبداً {فما له من مضل} فهو سبحانه يهدي من شاء منهم إن أراد.
ولما لم تبق شبهة ولا شيء من شك أن الهادي المضل إنما هو الله وحده وأنه جعل شيئاً واحداً سبباً لضلال قوم ليكون ضلالهم في الظاهر علة للنقمة، وهدى لآخرين فيكون هداهم سبباً للنعمة، بلغ النهاية في الحسن قوله: {أليس الله} أي الذي بيده كل شيء {بعزيز} أي غالب لما يريد في إضلاله قوماً يدعون أنهم النهاية في كمال العقول لما هدى به غيرهم {ذي انتقام} أي له هذا الوصف، فمن أراد النقمة منه سلط عليه ما يريد مما يحزنه ويذله كما أنه إذا أراد يعميه عن أنور النور ويضله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7